إعداد : عبد العظيم النطاح
" إنني أشدو باغنياتي لقادة الحرب ورجالها، وأغني للأمم المتوحشة وللدمار الذي تخلّفه الحروب، إنني أغني للخيانة ولمصرع الرجال ولما يلاقونه من عنت ومشقة، إنني اغني للكوارث التي حلت بليبيا وللعدو الذي كسرت شوكته، أغني للجوع والعطش اللذين أوقعا جيشين في إضطراب مميت، إنني أغني للدول التي وقعت فريسة للإضطراب والفوضى، وتدهور بها الحال، وغلبت على أمرها".
بهذه الكلمات الرائعة والوصف الغني لمعاناة الحروب يبدأ الشاعر فلافيوس كريسكونيوس كوريبوس (Flavius Cresconius Corippus ( ملحمته الشعرية الحرب الليبية الرومانية.
وقد أبدع الدكتور الجراري في هذه الترجمة الأدبية المتميزة، فهذا النوع من الترجمة ليس ترجمة لكلمات وتعابير وجمل، بل ترجمة لنص نابض، فالكلمة القاموسية إذا كانت ضرورة في البداية، فإنها يجب أن تفسح المجال فيما بعد للكلمة الحية التي تستمد معناها من بيئة النص ومن تدفقه من منبعه الى مصبه.
يورد الدكتور الجراري في مقدمة الكتاب ترجمة للشاعر نقتطف منها "لا نعرف الكثير عن الشاعر وكل ما نعرفه يأتي من عملين شعرين له وهما ملحمة وقصيدة طويلة في مدح الامبرطور جستين (In Laudem Justini Augusti Minoris) .
عاش في القرن السابع وألف ما يعرف بالاتفاقات المقدسة (Concordia Canonum ) وله عمل ثاني حول الامبرطور جستنيان فيما بين سنتي 566 م وسنة 567 م، وكان ذلك في سن متقدمة، كما يشير هو نفسه في مقدمة لهذا العمل.
والشاعر مغاربي الأصل والمولد وذلك بسبب اللقب المعطى له (الافريقي Africanus) وأيضا لعلمه الواسع بالمغرب وقبائله كما يتضح ذلك من ملحمة الحرب الليبية الرومانية.
وكغيره من أبناء شمال أفريقيا ذلك الوقت لابد انه تعلم اللاتينية عن طريق القنوات الرسمية وربما صار فيما بعد مدرّساً لها كما يفهم من لقب النحوي (Grammaticus) المعطى له في مخطوطة مدريد، ولا يوجد اى دليل آخر على اشتغاله بالتعليم سوى هذا اللقب الذي قد لا يعني بالضرورة انه اشتغل بالتدريس، وانما اعطى له لكثرة المحسنات البديعية والقدرة اللغوية التى اظهرها في ملحمته. وهذا تقييم لا يخلو من كثير من الصواب خصوصا اذا قورنت الملحمة ببقية الانتاج الأدبي اللاتيني المتأخر.
ولا بد ان الشاعر قد رافق القائد يوحنا في أكثر من اتجاه لمعايشة الوقائع ولدراسة شخصية الذي يكتب عنه طوال فترة الحملة التى استمرت من سنة 546م الى سنة 48 م، لهذا جاءت الملحمة غنية بالمعلومات الأولية شبه الصحيحة والفريدة عن بطل الحملة وعن معاونيه وعن سيرها وأسماء وعادات المشتركين فيها، مما يعطي للملحمة أهمية كبرى من الناحيتين التاريخية والاجتماعية.
وكان الفراغ من التأليف سنة 550 م على الأرجح حيث ألقيت في احتفالات النصر بقرطاج كما يستدل من المقدمة ومن الكتاب الأول البيت التاسع."
وكوربيوس مؤرخ أكثر منه كاتب ملاحم. فالوقائع التى كتب عنها هيا أحداث عاصرها معاصرة ملاحظ جاد الملاحظة... وسجلها تسجيلا شبه حرفي، أما أحداث ما قبل الملحمة فقد استعيدت على لسان ليبيراتوس تشيشيليدس (Liberatus Caecilides) أحد معاوني يوحنا... وبسبب هذه الواقعية اعتبر عمله أهم مصدر لنا عن شمال أفريقيا بعد عملى بروكوبيوس وهيريدوت.
وفي مقدمة المترجم يورد الدكتور محمد الجراري نقداً وقراءة في أدبيات الشاعر وأسلوبه نقتص منها " برغم هذه المبالغات المنتشرة هنا وهناك، الا ان كوريبوس قياسا على زمانه يعتبر من شعراء الملاحم الفطاحل فهو بارع في اوصافه الشعرية مثل وصفه للهروب الليلي للمغاربة (الكتب السادس البيت التاسع) أو صف حالة الاحتفال لإله الحرب ( الكتب الثامن البيت813 وما بعده) وكوربيوس بارع في ايجاد أوصاف لأبطاله (الكتب الرابع البيت 114 والكتاب الثامن 496) وتكمن عبقرية الشاعر في التشبيه والمقارنه حيث تظهر قوة إحساسه وتفاعله مع الطبيعية وسعة وخصوبة خياله فهجوم الليبين على الأعداء أشبه بهجوم الجراد(الكتاب الثاني البين 196)
وأسلوب كوربيوس واضح لحد كبير وهو كثير الاستعمال للجمل القصيرة وكثيرة التكرار للافكار والكلمات، مولع بذكر التفاصيل حتى الدقيقة منها وينسى في سبيل ذلك نفسه أحيانا فيطنب في الوصف لدرجة الملل.
والمؤلف مغرم بالتضاد وبيان التطرف في النقائض: الخير والشر، والقوة والضعف، الشجاعة والجبن، ولتحقيق هذه الغاية تنتفى صفات الافراد الشخصية ويتحولون الى رموز لمتناقضات أخلاقية أو جسدية فالمقارنة بين الليبي أو المغربي أو البيزنطي هى مقارنة بين الشر المطلق والخير المطلق بغض النظر عن الفروقات الفردية.
وربما لهذا السبب تصبح أعماله عبارة عن لوحات فنية تراعى فيها كل التفاصيل المتممة للوحة بغض النظر عن فروقاتها الواقعية، فموكب يوحنا بقرطاج ما هو الا محاولة لرسم لوحة لعظمة أبطال بيزنطية وقيمهم الحضارية."